الفطام الثاني..!!
إنها مرحلة جديدة في عمرها، شبت عن الطوق، صارت عروسًا رائعة، بها جميع المواصفات اللازمة لبداية حياة أسرية جديدة، بعيدًا عن بيت أبيها، ورفقة أمها، ولقد جاءها ابن الحلال، وها هي قد انتقلت إلى "بيته" منذ أسابيع أو شهور معدودة، ولكن مهلاً، فلقد قضت أجمل سني عمرها في بيت آخر، برفقة أسرة كانت تدللها، ربما حتى بعد كبرها تعتبرها طفلة، كيف تستطيع التماسك، تتقبل الابتعاد عنهم جميعًا، تتعامل مع نفسها على أنها ربة أسرة، المشكلة ليست خاصة بها فقط، بل به هو أيضًا.. آدم في مقتبل طريق الزواج، بعيدًا عن تدليل أمه وصداقة أبيه.
اصرار!
محمد البنا/28 عاماً يقول:ذهبنا لزيارة أهلي في القرية، لم نبق معهم إلا سحابة النهار، ركبنا السيارة العامة في طريق العودة، كنا نتحدث بشكل طبيعي جدًّا، لم أنتبه إلا وهي تطلب من السائق أن يتوقف، لماذا؟ قالت لأن السيارة قد مرت بمكان قريب من بيت أسرتها، وأنها اشتاقت جدًّا إلى أمها وذهبنا رغم تأخر الوقت وعدم ترتيب الزيارة.. وكانت مشكلة.
أبكتني عبر الهاتف
أحمد علي حسن–طبيب صيدلي/ 30 عامًا: زوجتي في العام الثالث الجامعي، بعد نهاية العام الدراسي، وكان قد مضى على زواجنا أشهر معدودة، اتصلت حماتي لتقول لي: - "-ماذا تفعلون عندكم، ألم تنته الدراسة.. لماذا لا تعد ابنتي إلي.. هي تقيم بالأقاليم، ونحن في العاصمة حيث كليتها، مكثت ثوان بالطبع حتى أفهم ما تقول، هممت بأن أقول لها: هل نسيت أننا قد تزوجنا بالفعل، لم تمهلني، استطردت:
-" وهل سأشحذ ابنتي منك، أريد أن أراها لأمر خطير جدًا.
-ما هو؟ وهل نأتي الآن مثلاً؟
- "خطير وخلاص، أليس من حقي أن أراها في أي وقت أريدها فيه، وهل هي سلعة أنت اشتريتها، وهل بعتها لك حتى تحرمني منها…."
يقول أحمد بصراحة امتدت المكالمة أكثر من أربعين دقيقة، وبكيت على سماعة الهاتف دون أن تدري حماتي، بخاصة وأن ابنتها –زوجي- حامل في شهرها الثاني وقد حذرتنا الطبيبة من الحركة الكثيرة، وكنا قد حمدنا الله أن العام الدراسي قد انتهى قبل نصيحتها، ولم نكن ندري أن حماتي ستبالغ في الإلحاح على رؤيتها؛ الأمر الذي يتطلب لا حركة فحسب، بل سفرًا بالغ الإرهاق..
ثلاثــــــة!
علاء –أ- 38 عامًا- محاسب: لظروف نفسية ربما كانت خاصة بعادتنا وتقاليدنا كمجتمع شرقي يحدث أن تكره الزوجة بعد ليلة الزفاف زوجها، ليس كرهًا بالمعنى المعروف، ولكنه كره وقتي، تحدثها نفسها بأنه استلب منها شيئًا غاليًا عليها، عاشت لسنوات ليست قليلة تحافظ عليه، بخاصة حينما تكون حالمة أو رومانسية، وقد تصدم لبعض الوقت، تصر على الذهاب إلى أمها، حدث ذلك معي في الحقيقة، تفهمت الأمر بلطف، وطلبت من حماتي أن تبقى معنا لبعض الوقت.. وقد حدث.. وفي أسبوع الزفاف الأول!!
لا يتناول عشاءً معي
هند حلمي –مصممة أزياء- 36 عامًا: صعب جدًا أن يتناول زوجي العشاء معي، حتى إن خرج من العمل مبكرًا، يتناول الغذاء بالمنزل، وجدني أو لم يجدني ساعتها، يذهب إلى الحي الذي تقيم أمه فيه، هو وحيدها، ولا بد أن "تتمم" عليه كل مساء، تتأكد من سعادته معي، أيضًا التقرير التفصيلي عن عمله الذي للأسف كانت تجيده، إذ كانت تعمل في نفس نطاقه وهي سبب إلحاقه به –لسوء حظي- يتخلى زوجي عن أي شيء في الدنيا إلا عن جلسة المساء هذه معها، إنه يريد بيع الشقة لشراء أخرى قريبة منها، مهما عاد متأخرًا، بصراحة "شبعت" من المشاكل أسأله عن حالها فقط، وأتظاهر بأن الأمر صار يرضيني حتى لا أفتح باب المواجهة مع هذه المشكلة بالذات..
ألا تطعمها؟!
محمد عبد العال –موظف بالسجل المدني- 27 عامًا: حماتي لا تتدخل في تفصيلات حياتنا، ولو فعلت لكان أفضل ألف مرة، إنها بكل بساطة وحتى بعد مرور عام على زواجنا، عند زيارتها وقبل انصرافها، تبدي ملاحظة واحدة كافية بأن تقلب حياتنا رأسًا على عقب، وخذ عندك مثالاً واحدًا، آخر مرة زارتنا نظرت في وجه زوجتي طويلاً ثم قالت لي ولها:
- ماذا بها.. وجهها متغير، ونقص وزنها كثيرًا "ألا تطعمها؟!"
طبعًا لم أجب!
أنا في "بيتنا"!
سيد مراد –مدرس- 35 عامًا: الحساسية الشديدة مشكلتها، كانت في فترة الخطوبة تعاني من أني قليل الكلام، فلو تزوجنا وتحدثت، كل كلمة تعلق عليها، فمثلا لو قلت لها: "ناوليني كوب ماء" ولم أقل لو سمحت"- والله حدثت، ترد علي على الفور حسنًا.. سأعود إلى "بيتنا"، ولن أرجع قبل أن تغير طريقتك، وتعرف كيف تفسر كلامك، وتقول "لو سمحت تعالى"!
السبب أننا متزوجان "جديد"، نعم، ولكن أي لغة مشتركة، وطريقة تعامل واحدة سوف نتعامل بها، هي لا تعرف لو عاملتها أنا أيضًا بهذه الحساسية لما بقيت معها تحت سقف واحد، وعلي كل مرة أن أصالحها.. وأقبل تحذيراتها الواضحة قبل أن تعود إلى الذي تسميه "بيتهم" الذي هو بيت أبيها، لا أعرف البيت الذي يجمعنا بيت من إذن؟ !
أسبوع إجازة كل شهر!!
محمد عبد الجواد –صاحب محطة تمويل وقود- 40 عامًا: بيننا فارق في السن كبير بعض الشيء نعم، لكن هذا لا يعذرها في بعض الأمور غير الخطيرة، نعم، فهي لا تغسل الأواني مثلاً، وتعتبر الطبخ تضحية! بعدما كانت لا تعمل لنفسها أي شيء حتى كوب الشاي في بيت أبيها، حيث كانت تقوم بذلك نيابة عنها أمها –على كبر سنها- رغبة في تدليلها طبعًا، وطبعًا أتحمل عواقب "هذا" أنا، فلا بد من خادمة كل يومين كي تغسل الأواني.. والثياب، والبلاط.. إلخ.. وإلا فالويل لي، والجديد أنها تطالب –بجدية- بأسبوع في الشهر كي تستريح فيه من متاعب البيت، لتبقى ببيت أبيها !.
الحل: "فطام" جميع الأطراف!
د. مديحة الصفتي –أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة تقول: إن يحدث نوع من أنواع "الحنين الشديد" لدى الزوجة إلى بيت أبيها، وإلى حضن أمها بوجه خاص، فهذا وضع طبيعي جدًا، ولكن إلى أي مدى يؤثر هذا الحنين الجارف في تصرفات الزوجة، وتصرفات أمها، هذا هو السؤال؟.
الزوجة حديثة الزواج إلى وقت قليل جدًّا مضى كانت مرتبطة بأسرتها، معتادة على نمط حياة معينة، وأيضًا نظرة خاصة لنفسها، وفجأة انتقلت إلى بيت آخر –بيت زوجها- هو ليس انتقالاً فيزيقيًا فقط –أي انتقال جسدها من مكان لآخر- بل هو أيضًا انتقال نفسي صعب جدًّا على نفسية الفتاة التي يجب أن تقتنع في فترة وجيزة بالانتقال نفسه، وبكونها زوجة، تنظر إلى نفسها نظرة مختلفة عن التي كانت عليها منذ وقت وجيز.
وتضيف د. مديحة: على أن هذا الفطام الثاني ليس خاصًّا بالزوجة نفسها، بل هي غالبًا أحسن حالاً من أمها، الأم تجلس لتنخرط في البكاء لأوقات طويلة غير مصدقة أن ابنتها قد غادرت حضنها، "عشرة طويلة ومعزة شديدة"، أيضًا الأمر شاق على الزوج، وعلى أمه ولكن كل هذه الأحاسيس والمشاعر هي تعبير عن الوضع الطبيعي الذي ذكرته، وكلها تساعدهم على التكيف طالما أنها "تأخذ وقتها" وتمر.
وتستدرك د. مديحة قائلة: المشكلة حينما يمتد هذا "الوضع"؛ لتدخل الزوجة أو الزوج في حالة شبه مرضية –إن لم تكن مرضية- سببها عدم القدرة على مواكبة الوضع الجديد، أعرف "حالة" من هذه الحالات؛ فما إن يذهب زوجها للعمل تذهب هي إلى بيت أمها، وهو عائد مساءً يمر ليأخذها، فلا هي التي عرفت المسئولية، وحافظت على بيتها، ولا بقيت كما هي سابقًا في بيت أمها..
ومع استمرار هذا الوضع المرضي يبدأ عمل الحماة، لا تدرك أنه وضع طبيعي، وأنه طور من أطوار الحياة، بل ترى زوج ابنتها، أو زوجة ابنها منافسة لها، فلا تنظر النظرة الطبيعية له على أنه فرد جديد من أفراد أسرتها، وأنها طالما أسعدته/أسعدتها؛ أسعدت ابنها/ابنتها، ولا تدري أنها حينما تفتح باب المشاكل تفتحها على ابنها أو ابنتها أولاً، عمومًا جيل الحموات "الصعب" قارب "النفاد" لأن هناك جيلاً جديدًا من الحموات الآن منشغل بأعماله عن الأزواج..
وتختتم د. مديحة كلماتها، الجد في مثل هذه الأمور غالبًا أكثر تعقلاً لأنه ينظر للأمر بعقله، نطالب الجميع أن يكونوا كذلك، وأن يدركوا أن الحياة تسير، وأن هذه سنة الحياة، وهذا وضع طبيعي وإن كان مؤلمًا، وأن يعتبروها "أزمة تأقلم وتكييف" ويجب أن تمر حتى يصلوا جميعًا إلى مرحلة "الفطام الثاني".
الــسكــن
الشيخ مصطفى محمود حماية إمام مسجد التوحيد يقول: الفطرة تقتضي أن يكون انتقال الفتاة من بيت أبيها إلى بيت زوجها أمرًا طبيعيًا، فحتى في الجاهلية أدركت الأم هذا المعنى فأوصت ابنتها قائلة: "لو أن امرأة استغنت عن الزواج لغنى أبويها لكنت أنت، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.. فارقت العش الذي فيه نشأت والبيت الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه.." إن الأم تنبه ابنتها إلى الشعور الطبيعي الذي ستمر لفترة محدودة به، وهو شعور "الغربة" فتعامل الزوجين قبل البناء يغلب عليه التجمل، لتبدأ صفحة جديدة من علاقتهما، بنوع من التحسب العام، بداية من الزوج والزوجة، للحما والحماة، وتستمر هذه الحالة حتى تكون لدى الجميع فكرة كاملة عن بعضهم..
أما عن صدمة "النقلة" الجديدة في العلاقة يقول الشيخ مصطفى: النقلة الجديدة تخلف صدمة مع الفتاة الحساسة، ربما لحالة مرضية، وغالبًا للشعور بالارتباط الزائد نحو الأب والأم، وبأنهما الركن الذي تركن الفتاة إليه في الحياة، فهما اللذان يقويانها، أو لإحساسها بأنها غير قادرة على تحمل المسئولية، وهي تتوج كملكة على عرش مملكة جديدة..
أما "حنين" الزوج لأمه أو تعلقه بها التعلق الذي يمنع الفطام الثاني في حياته مع بداية الحياة الزوجية يقول الشيخ مصطفى: عفوًا لو تقدم مثل هذا الشاب لابنتي، واكتشفت هذا فيه قبل الزواج، فلن أتم العقد، لأن هذا الأمر يفقده القدرة على القوامة، كما أنه من العيوب القاتلة في شخصيته، ولو تم الزواج لما استطاع جمع كل خيوط الأمر في يديه، وهذا سيفجر مشاكل لا حصر لها، ومهدد للبيت والاستقرار الأسري.
أما عن ضغط الأم على الزوج لاصطحاب زوجته إليها في وقت تريده فيقول: هذا ليس من حقها، برها حق لها، ولكن في الموعد الذي يحدده الزوجان، ومن حق الزوج ألا يستجيب لضغط الحماة طالما لم يكن هناك مبرر قوي، وخشي على صحة زوجته خاصة إذا كانت حامل.
إن الحقوق موازين دقيقة.. لذا فإن التقوى هي مناط الأمر كي نضبط هذه الموازين فلا نجور على حق أحد.. أو مشاعره..