كان (أوراشيما ميزومو) صيادا شابا يقيم في (سوجيكانا), تلك المدينة الصغيرة التي تقع في مقاطعة (يوركا) اليابانية.
كان الصياد (أوراشيما ميزومو) يتنزه على الشاطئ عندما رأى صبية يلهون بسلحفاة صغيرة أخرجوها من الماء, ووضعوها على ظهرها وأخذوا يوخزونها بقطعة خشب صغيرو مدببة حتى يجبروها على تحريك أقدامها ورأسها, متناسين أن هذه السلحفاة الصغيرة عاجزة عن الهرب وهي تتألم كثيرا من شدة ما بها من ألم.
زجر (أوراشيما ميزومو) الأولاد ووبخهم على قسوتهم, وأعاد السلحفاة إلى الماء, وما إن وجدت نفسها في بيئتها الطبيعية حتى استعادت حيويتها واختفت تماما.
بعد عدة شهور كان (أوراشيما ميزومو) يصطاد بعيدا عن الميناء, حينما فاجأته ريح قوية مزقت شراعه وأغرقت قاربه.. كاد المسكين أن يغرق هو الآخر حينما برزت من الأمواج المتلاطمة سلحفاة ضخمة دعته إلى أن يأخذ مكان فوق ظهرها وقالت له: لقد أنقذت ابنتي من الأولاد الذي كانوا يعذبونها .. وهاهي فرصة غير متوقعة لأرد لك الجميل, وأثبت امتناني لما فعلته.
قال الصياد: لطف منك أيتها السلحفاة الطيبة أن تعيديني إلى الشاطئ, لأنني خائر القوى بالفعل.
(ولو أن السلحفاة استجابت لرغبة أوراشيما ميزومو, لما استحقت أن تروى).
لقد عرضت السلحفاة على الشاب أن تجعله يكتشف أعماق المحيط التي تسكن فيه,
وقالت: شئت ذلك أم تشأ, لقد نالك البلل وانتهى الأمر, ولم يعد لك قارب ولا شيء, إذن تعال معي لتشاهد ما لم تره عين من البشر أبدا. وأنا أضمن لك أنك لن تندم أبدا على هذه الرحلة.
وبدون أن تنتظر الرد على عرضها, غاصت السلحفاة بالشاب في اتجاه واحدة من أكبر فجوات المحيط عمقا.ولأنها كانت تسبح بسرعة هائلة فإن الرحلة لم تستغرق أكثر من ساعة قبل أن يصل الاثنان إلى قصر من المرجان, فتحت بوابته المرصعة من اللآلئ الدقيقة أمامهما.
انبعثت موسيقى رائعة تردد صداها في الأسقف المضاءة بأسماك منتفخة ذات جلد شفاف تحمل في بطونها شموعا مشتعلة.
نظر (أوراشيما ميزومو) حوله فوقع بصره على فرقة موسيقية من السلاحف تنفخ في أبواق من الأصداف البحرية ذات أشكال مختلفة .. بينما تضرب سلاحف أخرى بأقدامها فوق دروع فارغة, في حين كانت أخريات تنقر فوق خيط من طحالب رفيعة مشدودة بين أسنان سمكة قرش كانت تقف بدون حراك وحلقها مفتوح عن آخره. كان هناك عدد لا يحصى من العازفين الماهرين, ما جعل الإخطبوط قائد الأوركسترا بحاجة ماسة إلى أذرعه الثمانية ليقود هذه الفرقة الضخمة.
لم يكن الصياد قد استفاق بعد من دهشته وانبهاره حينما شعر بيد فوق كتفه وصوت امرأة يهمس في أذنه: أنا لم أتخذ هيئة سلحفاة إلا من أجل أن أنقذك.. لكن كما ترى بنفسك, أنا ملكة القصر. منذ عصور طويلة وأنا أنتظر رجلا بحق ليتزوجني. أنت أول رجل يمد يد العون لواحدة من صديقاتي السلاحف.
كانت الملكة الشابة ذات جمال رائع, وصوت عذب رقيق, ويطل النقاء والحنان من نظراتها ويلمع شعرها تحت الأضواء كأسلاك من ذهب. فلم يتردد الفتى لحظة واحدة وقبل بالزواج بها.
في الحال عزفت الفرقة الموسيقية لحن الزفاف.. وبالطبع لم يحضر الاحتفال أي مندوب من التلفاز لأن هذا الجهاز لم يكن له وجود حينذاك. لكن بإمكانكم التأكد بأن هذا الزواج كان شيئا مختلفا تماما عن الزيجات الملكية التي نشاهدها في عصرنا هذا.
لكم تتصوروا سعادة هذا الصياد الطيب الذي لم يعش الحياة خارج كوخه المتواضع أبدا. وكان يشعر بسرور غامر وهو بالقرب من زوجته الرائعة, حتى أنه لم يشعر بمرور السنين, لأن أعماق المحيطات لا يترك عليها توالي الفصول بصمات الزمن, ولاشيء يمكن أن يحدد مداه.
وذات يوم سأل (أوراشيما ميزومو) زوجته: كم مضى علي من الوقت وأنا هنا؟
ردت قائلة: ثلاث سنوات, هل تشعر بالضيق؟
فرد عليها: كلا لا أشعر بالضيق, حتى ولو قلت أنه لم يمض على إقامتي هنا إلا ثلاثة أشهر لصدقتك على الفور, لكنني أفترض أن أمي العجوز قد تملكها القلق بشأني, وكم أتوق إلى رؤيتها لأقبلها وأطمئن عليها.
قالت الملكة: اذهب كما تشاء واحمل معك هذا الصندوق الصغير, ولكن لا تفتحه أبدا و إلا سوف تفقدني إلى الأبد.
ارتدت الملكة درع السلحفاة وسبحت بالصياد حتى أوصلته إلى أقرب بقعة من قريته, وبمجرد أن اختفت تلفت الصياد حوله. ظن في بادئ الأمر أنه زوجته قادته إلى بلد غريب عنه لفرط ما طرأ على المكان والأشياء من تغيير.
سار في اتجاه مجمعات سكانية كانت أشبه بمدينة كبيرة, وليست بالقرية الصغيرة التي ولد فيها. تعرف على بعض البيوت والصخور والمنشآت العامة التي تعود إلى بلدته القديمة. حدث نفسه قائلا: يبدو أن إنجازات كثيرة تمت خلال ثلاث سنوات!!!!!!
لكن الذي أثار دهشته أكثر فأكثر هو أنه لم يتعرف على أي شخص في القرية, التي كان يعرف جميع سكانها. وحينما وصل أخيرا إلى بيته حاول أن يفتح الباب.. ولكن مفتاحه لم يدخل القفل. وظن أن ذلك بفعل الصدأ الذي علاه لوجوده ثلاث سنوات في البحر.. فأخذ يخبط الباب بقبضتيه وهو يصيح: أمي !!!!! أمي!!!! افتحي لي الباب أنا ابنك (أوراشيما ميزومو) .
انفتح الباب بالفعل, لتقف على عتبته امرأة لا يعرفها تصيح في وجهه:
هل فقدت عقلك لتبحث عن أمك في بيتي؟! هل تحب أن أستدعي لك الشرطة؟
قال (أوراشيما ميزومو) ذاهلا: سامحيني أرجوك, لكن أمي كانت تقيم هنا حينما تركتها منذ ثلاث سنوات.
ردت عليه: ثلاث سنوات!!! إني أملك هذا البيت منذ أكثر من ثلاثين عاما! أغرب عن وجهي أيها المعتوه!
صفقت المرأة الباب في وجه المسكين الذي تشوش فكره تماما, وظل ذاهلا لبضع لحظات .. ثم شرع في سؤال المارة الذي لم يخفوا دهشتهم من طرازه القديم وغرابته..واعتبروه مجذوبا خفيف العقل. بينما كان في قمة اليأس حينما التقى عجوزا قالت له: إن بيت الصياد (أوراشيما ميزومو) هناك عند طرف شارع الميناء , أنا أعرفه جيدا, فقد كنت أسكن بجواره وقد عرفت هذا الصبي, وأذكر أنني كنت في الثامنة من عمري في الوقت الذي مات فيه في البحر. وكان هو في العشرين من العمر تقريبا. لكن اقترب قليلا حتى أرى وجهك عن قرب .. ما هذا؟
يا للعجب! أنت شديد الشبه به, كما لو كنت شقيقه.. هل أنت من عائلته؟
فرد عليها وهو متلعثم اللسان: أنا؟!!.. أنا في الحقيقة..
فقالت له: ماذا دهاك يا بني؟ أنت في شدة التأثر, مع أنه يبدو منطقيا أنك لا تعرفه.. هيا تعال معي إلى المنزل, إن قدحا من الشاي سيفيدك كثيرا .. تعال إنني أدعى (كيوهيمي).
دخل (أوراشيما ميزومو) البيت وهو في نصف وعيه .. فقد عرف في هذا البيت بنتا صغيرة اسمها (كيوهيمي) .. وحينما فرغ من شرب الشاي شعر بشيء من التحسن .. وقال: أنا (أوراشيما ميزومو) وأعرف جيدا أنني غادرت هذه القرية منذ ثلاث سنوات فقط!
انطلقت ضحكة صافية من العجوز وبدأت تحكي كل ما حدث منذ أن غادر جارها القرية, فقد ماتت أمه من الحزن, وبيع منزله لأكثر من مرة, وتحدثت عن تطور القرية والمواليد الجدد والزيجات والوفيات.
كلما توغلت العجوز في السرد كان (أوراشيما ميزومو) يشعر بقلق رهيب يتصاعد بداخله .. ترى هل يكمن السر في الصندوق التي أعطته إياه زوجته؟!
نسي تماما وصية الملكة وتحذيرها له, ففتح الصندوق فتصاعدت منه على الفور سحابة بنفسية اللون أحاطت برأسه وغطت وجهه تماما, وحينما انقشعت السحابة وتلاشت وكف الصياد عن السعال.. أراد أن ينهض من مكانه لكنه شعر بألم حاد يقلص ظهره وجنبيه وكان منحنيا للأمام .. ويستند على الحائط وهو ينقل خطواته بصعوبة بالغة ليصل إلى المرآة التي عكست له صورة عجوز أصلع تملأ التجاعيد وجهه ويديه!
بشيء من الدهشة رفعت (كيوهيمي) مصباحها نحوه وقالت: واضح أن قدرتي على الإبصار تقل أكثر فأكثر .. لأنني كنت أراك في الخارج شابا فتيا .. لكنك أنت (أوراشيما ميزومو) وأغلب ظني أنك تبدو أكبر من سنك بكثير.
لم ينطق العجوز بكلمة .. وخرج ببطء تحمله ساقاه المرتعشتان في اتجاه البحر .. وفوق الشاطئ اتخذ مسارا بعيدا حتى يتجنب المرور بجانب أولاد يعبثون بسلحفاة بحرية .. ظل هناك بدون حراك وقد ثبت بصره في الأفق البعيد حيث يختلط لون السحب الرمادية بأمواج البحر القاتمة.
وحينما انطفأت آخر أنوار البحر, جرجر (أوراشيما ميزومو) نفسه بصعوبة شديدة حتى وصل إلى مغارة صغيرة محفورة بين الصخور. وهناك تمدد فوق الرمل وهو ينتظر في سكون ساعة المد المرتفع وهو يتلو الصلاة.
أعزائي,,,
أرجو أن تكونوا قد استمعتوا بهذه الأسطورة العجيبة