عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال
البردية الأولى .. ما قاله القمر
كان مينا
العظيم الذى يرد أيضا فى الكتابات القديمة باسم نارمر هو أول من وحد وجهى
مصر القبلى والبحرى عام ٣١٠٠ قبل الميلاد وأسس بذلك الأسرة الحاكمة الأولى
فى مصر، لكن التاريخ المصرى لا يبدأ بأسرة مينا وإنما قبلها بـ٢٤٠٠ سنة
فيما يعرف بعصر ما قبل الأسر.
وبعد عصر مينا بحوالى ٩٠٠ سنة وفى نهاية
الأسرة السادسة كان حاكم مصر فرعون عجوزا هو الملك بيبى الثانى الذى اعتلى
العرش بعد وفاة أخيه غير الشقيق مرنرع. لكن بينما لم يدم حكم مرنرع إلا تسع
سنوات امتد حكم بيبى الثانى أكثر من تسعين سنة حتى طعن فى السن واعتراه
الوهن فلم يعد يبرح قصره وصارت حاشيته تحكم البلاد باسمه بينما هو لا يدرى
شيئاً عن أحوال الناس. كانت مصر فى ذلك الوقت تعيش مرحلة اضطرابات وقلاقل
وتندلع فيها الثورات ويتهددها الغزاة عبر الحدود الشرقية.
على أن أمين
الخزانة الملكية إيبو أور وهو من أخلص رجال الملك كان يسوؤه كثيرا هذا
الوضع، فقد كان يتمثل أمامه تاريخ مصر العظيم فى الدولة القديمة التى شيد
فراعينها الأهرامات التى تحدت الزمن كما لم تفعل أية أبنية أخرى وحققت لمصر
المجد والخلود.
كان إيبو أور كلما نظر إلى هرم خوفو العظيم الذى شيد
٢٧٠٠ عاما قبل الميلاد انفطر قلبه حزنا على ما آلت إليه البلاد بعد أن
عمتها الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية، لكنه لم يكن يعرف ماذا
يفعل. أصبح لا ينام الليل. كان ينهض من فراشه ويمشى فى الغرفة ذهابا وإيابا
من فرط قلقه وخوفه مما يمكن أن يصيب مصر إذا استمرت على هذا الحال.
وفى ليلة ظلماء خرج إيبو أور من منزله فى الساعات الأخيرة من الليل يبحث عن
خونسو إله القمر القادر على طرد الأرواح الشريرة عساه يعينه على درء هذا
الشر الذى يحيط بالبلاد، والشافى من المرض عله يدله كيف يكون العلاج.
نظر إيبو أور إلى السماء فوجدها حالكة الظلام. لم يكن بها قمر. نظر يمينا
ويسارا بحثا عن دلالة أو إشارة إلهية يكون فيها الخلاص فلم يجد من حوله غير
الظلام الدامس. صاح فى الخلاء: «أين أنتم يا من خلقتم هذه الأرض الطاهرة..
أرض النيل المحروسة؟ أين آتوم الإله الأكبر خالق الكون وخالق الآلهة؟ هل
تخليتم عنا؟ هل تخليتم عن كمت؟ هل تخليتم عن الأرض السوداء؟».
فجأة بدأ
الظلام ينقشع قليلا وظهر خونسو من خلف إحدى السحب فرفع إيبو أور ذراعيه
متضرعا وساد الصمت لحظات تكلم خلالها القمر بصوت لم يسمعه إلا إيبو أور..
ثم هطل المطر.
عاد إيبو أور إلى بيته صامتا هادئ النفس، وفى اليوم
التالى ذهب إلى القصر طالبا مقابلة فرعون فقابله رئيس البلاط وسأله عن سبب
المقابلة فرد عليه إيبو أور: «أريد أن أحدث مليكنا فى أحوال البلاد»، فقال
رئيس البلاط: «تعلم يا أمين الخزانة أن فرعون طعن فى السن وواجبنا نحوه
يقتضى ألا نطلعه على ما يعكر صفوه».
فرد إيبو أور: «لكن الآلهة أوفدتنى
لإطلاع فرعون على أحوال البلاد»، فقال رئيس البلاط: «وماذا فى أحوال
البلاد؟ إن بيبى الثانى هو أعظم الفراعين فى تاريخ مصر وأحوال البلاد فى
عصره أروع ما تكون الأحوال».
عاد إيبو أور أدراجه حزينا فدخل بيته ومرض
ولم يعد يقوى بعد ذلك على القيام من الفراش. ثم أحس بدنو أجله فكتب هذه
البردية لفرعون والتى يعود تاريخها إلى عام ٢٢٦٠ قبل الميلاد:
وتتعارض تلك الصورة
مع ما ورد فى مواضع أخرى حول بداية عهد بيبى الثانى حيث خرجت الحملات
العسكرية والاستكشافية إلى كل من آسيا وأفريقيا، ومن أشهرها الحملات الأربع
التى قادها الأمير حرخوف حاكم الجنوب داخل أفريقيا بأوامر من الملكين
مرنرع وبيبى الثانى من بعده، ففتح طرقا جديدة لمصر فى الجنوب وسلك دروبا
مجهولة فيما وراء النوبة ودارفور وكان يعود من كل رحلة بمنتجات ثمينة من
بخور وأبنوس وجلود فهد وسن فيل، وكانت القبائل الأفريقية تذهلها قوة الجيش
المصرى فتقدم لأفراده كل ما يريدون.
وعلى جدران مقبرة حرخوف التى تحكى
سيرة فتوحاته العظيمة نجد نص رسالة بعث بها إليه الفرعون بيبى الثانى أثناء
رحلته الرابعة إلى الجنوب قبل حوالى ٤٥٠٠ سنة. فى تلك الرحلة أحضر الأمير
معه أحد الأقزام هدية لفرعون الذى كان لا يزال طفلا فى العاشرة من عمره.
وفور علم فرعون بأمر الهدية كتب إلى حرخوف يقول فى حماس الأطفال:
«عد
فورا إلى القصر الملكى وأحضر معك ذلك القزم الذى جلبته من أقاصى الدنيا.
حافظ على حياته واعتن بصحته، وحين يركب معك المركب النيلية التى ستحضره إلى
القصر فليحيط به رجال أشداء حتى لا يسقط فى الماء. وعندما يحين وقت النوم
فى الليل خصص له رجالاً موثوقاً بهم يحرسونه واذهب بنفسك لتتفقد أحواله عشر
مرات فى الليلة. إن جلالتنا يتوق لرؤية هذا القزم أكثر من كل ثروات سيناء
فى الشرق أو بلاد بونت فى الجنوب».
وقد ظل الأمير حرخوف يعتز بتلك
الرسالة طوال حياته حتى إنه أمر بنقشها على واجهة مقبرته بعد وفاته.
لكن عصر الفتوحات الكبرى كان قد مضى بعد أن شاخ فرعون مصر فوق عرشه فتدهورت
الأحوال مما دفع أقرب المخلصين له لمحاولة تبصيره بالخطرالمحدق بالبلاد.
قرأ كاتب الديوان رسالة إيبو أور على الملك العجوز الذى كان متكئا على
رئيس البلاط من ناحية وعلى كبير الكهنة من الناحية الأخرى فلم يفهم الملك
الرسالة. كانت أقوال حاشيته قد صمت آذانه بما كانت تؤكده له ليل نهار من أن
أمور المملكة فى تقدم وازدهار. نظر فرعون إلى كبير الكهنة على يمينه وإلى
رئيس البلاط على يساره ثم سألهما: «ما معنى رسالة إيبو أور؟» فرد رئيس
البلاط: «لا أعرف يا مولاى. قد تكون مقطوعة أدبية من وحى الخيال مثلما يهذى
به الشعراء».
قال الملك: «لكن الأدب يستلهم الواقع، والشعراء أصحاب
خيال لكنهم لا يهذون، فماذا تظن قصد إيبو أور؟» فرد رئيس البلاط: «ربما قصد
الحديث عن ممالك أخرى فى الشرق أو فى الغرب غير مملكتك يا مولاى»، وقال
كبير الكهنة: «لا تلق للبردية بالا يا مولاى هى خرف المرض ليس أكثر».
فانزعج فرعون مما سمع وقال: «هل مرض إيبو أور؟ لماذا لم يخبرنى أحد؟ أرسلوا
إليه كبير أطباء القصر فورا ليطببه ثم ادعوه لمقابلتنا حتى نعرف منه ما
قصده فى رسالته». لكن إيبو أور كان قد أراح ضميره بإرسال هذه الرسالة
لفرعون فرحل فى نفس اليوم عن الدنيا. ولم يفهم فرعون ما قصده فى رسالته.
وتفاقمت الأوضاع فى جميع أرجاء البلاد وتهرأت الدولة وانتشر الفساد. وفى
ليلة جفل فيها القمر توفى فرعون مصر العجوز فسادت الفوضى فى كل مكان وبعد
ثلاث سنوات انتهت الدولة القديمة وتوالى الملوك والفراعين الواحد تلو الآخر
فى تتابع سريع فمر كل ملوك الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة فى
فترة لا تزيد على ستة عقود، وكأن تاريخ مصر تحول إلى فيلم هزلى صامت سريع
العرض تفتتت خلاله البلاد. ثم حدثت الفجيعة الكبرى حين انقطعت العروة
المقدسة التى جمعت بين شطرى وادى النيل وانتهت وحدة أرض مصر التى أقامها
مينا العظيم قبل ذلك بأكثر من ٩٠٠ عام، وتحولت مصر القوية المجيدة إلى
مصرين صغيرين هزيلين. وبينما أنجز المصريون فى وحدتهم بناء الأهرامات،
انشغلوا فى انفصالهم بالحرب الأهلية بين الدولتين الشمالية وعاصمتها منف
والجنوبية وعاصمتها طيبة.
لكن مصر الضعيفة الواهنة لم تكن لترضى
الآلهة، فمصر كما يقول آتوم الإله الذى يسود الكون والبشر، الإله الأكبر
غير المتجسد فى أى من الأشكال البشرية أو الحيوانية كبقية الآلهة التابعة
له، هى كمت، أى الأرض السوداء، أرض الخصوبة والنماء، أرض الوحدة والأمن
والسلام.
انتفضت السماء غضبا لما ألم بمصر وبكت إزيس هذا الانقسام
وقالت: «لقد جمعت أطراف أوزيريس من فوق قمم الجبال فكيف لى أن أجمع الآن
أشلاء البلاد!» لكن الإله بتاح راعى وحدة مصر وحاميها هدأ من روعها مؤكدا
لها أنه خالق من يعيد لمصر الوحدة التى قدرتها لها الآلهة.
وفى إحدى
ليالى الصيف الحارة أبحر فى السماء خونسو إله القمر طارد الأرواح الشريرة
والشافى من المرض، فوق سحابة بيضاء صافية قاصدا جنوب الوادى برسالة إلهية.
وفى الصباح ومن مدينة طيبة سمع صوت منتوحتب الثانى حاكم دولة الجنوب يصدح
فى جميع أرجاء البلاد من شاطئ البحر فى الشمال إلى بلاد بونت فى الجنوب:
لبيك يا حبيبتى لبيك
الجمال هو أنت يا كمت
شاطئ النهر هو ذراعك
وماء النيل هو دماؤك
لكن التمساح راقد هناك
فوق شط الرمال بفمه
المفتوح
وحبك يملؤنى شجاعة وإقداماً
سأعبر فوق النهر
سأخلصك
منه يا حبيبتى
سأعيد إليك رونقك وجمالك
سأعيد إليك مجدك وجلالك.
كان منتوحتب حاكم طيبة الذى تلقى كلمات القمر هو من نذرته الأقدار لإنقاذ
مصر، فلم تمض بضع سنوات حتى وضع حدا للفوضى التى استشرت فيما يعرف باسم
مرحلة الانتقال وأسس الأسرة الحادية عشرة التى بدأت بها الدولة الوسطى.
واقتفى منتوحتب أثر مينا العظيم فجمع مرة أخرى بين الشمال والجنوب فى وحدة
جديدة قدرت لها الآلهة هذه المرة ألا تنفصل عراها حتى أبد الآبدين.
منقول