وضع فنجان القهوة على المنضدة جانبه و مرر كفه على شاربه...
جالسا على طرف فراشه المهترئ، كان ينظر إلى الأرض بين قدميه... نظرة تائهة، تجوب مدينة مشاكله الكئيبة.. كل الأبواب موصدة.. كل النوافذ حديدية..
رأى نفسه بأسمال بالية و رجل حافية.. يتسكع في تلك المدينة المجهولة الاسم... لافتات ضخمة لم يكتب فيها شيء... شوارع فسيحة، و لا سيارة تمر.. أعمدة الإنارة تنظر إلى الأرض في حزن و قد خبا نورها... إن المدينة بركة صمت.. مستنقع ظلام...
الأشياء ببيته القصديري جد محدودة.. سرير في ذلك الركن.. مليء هو بالثقوب التي وضع على بعضها رقع فظيعة الألوان... منضدة اعوجت إحدى أقدامها .. كرسي غير متجانس الأطراف... مرآة حائطية.. أو بالأحرى شظية زجاج مكسر... هذا كل شيء..
وافت المنية أمه و هو ابن الثالثة... فعاش طفولته مع أبيه.. ذلك الرجل الأشعث ذو الشارب الكثيف... يتذكر الضرب المبرح و المعاملة القاسية... يتذكر لحظات خلوته بركن من أركـان البيت، حيث كـان يُطلق العنان لجفونه و يسمح لها بأن تفيض دمعا دافئا...
بسبب عصبية أبيه المفرطة كانت تأتي هذا الأخير نوبات قلبية حادة، ينجو منها دائما بأعجوبة.. ثم يأتي ذلك اليوم الذي يطلب الأب من ابنه كأس ماء بنبرة غريبة، هادئة.. فيحضر الابن الكأس ليكتشف - طبعا - جثة أبيه وقد افترشت الأرض..
يرمقه وجهه من خلال قطعة الزجاج على الحائط... شعيرات بيضاء تطل من جانبي رأسه.. وكأنما تسخر من حياته و من شبابه المقتول.. يتحسسها بأصابعه المنهكة.. يشدها بقوة ثم يضحك... يشدها أكثر و يعلو صوت ضحكاته بأرجاء البيت...
يشوب قهقهته الطويلة تأوه متألم عندما يجتث بعضها لتظهر مكانها بقع دامية...
الكل في الحي يعرف ذلك الشاب طويل القامة، أشعث الرأس... يرونه وهو يمشي مشيته المشتتة، الغير مكترثة... ملابس ممزقة و حذاء قد خرجت من فمه أصابع نحيفة..
كان آنذاك يستأجر غرفة حقيرة بنصف ما يجنيه من عمله بإحدى المزارع... وحيدا، كان يذهب إلى العمل و يعود.. مطأطأ الرأس، لا يكلم أحدا..
أحيانا كان يقهقه بصوت عالي في الشارع بينما الناس يضجون من حوله... و أحينا أخرى يكلم نفسه و يصرخ بشدة.. مما جعل صبية الحي المزعجين يطاردونه و يشتمونه و ينعتونه بالمجنون...
لا زال يضحك ملأ فمه و هو يحملق في وجهه المجنون بالمرآة... سكت فجأة و تبدلت ملامحه إلى غضب و حنق شديدين.. لكم الزجاج بيده و هو يزمجر... ثم توالت لكماته بقوة و بكلتا يداه حتى تحطم الزجاج بالكامل و تحول إلى قطع اخترق بعضها يداه الداميتان...
أما الآن وقد دخل الشيخوخة من بابها الواسع.. لم يعد يعمل البتة، و أضحى يُمضي أيامه الطويلة المتبقية بكوخه القصديري وسط حي من أحياء المعوزين... و بات الكل متأكد تمام التأكد من كونه مجنون...
كان يواصل أنينه وهو يرمق شظية الزجاج المتبقية على الحائط...
تمكنت ابتسامة من التسلل إلى وجهه المشوه من أثر الألم المروع بيديه..
مد كفه المقوسة و التي انغرست بظهرها أشلاء زجاجية صغيرة.. مدها ببطء بطيء و على وجهه شيء من التصميم.. و بحركة سريعة انتزع شظية الزجاج و ابتسامته تتسع أكثر..
ثم...
غرسها مباشرة في قلبه...
فمه لم يصدر أنة و عينه لم تحرر دمعة... فقط هوى جسده المنهك ليرتطم بالأرض الصلبة.. القاسية...